Site icon الهيئة العالمية لنصرة فلسطين والأمة

الشيخ يوسف القرضاوي : ابن تيمية العصر

إمام العصر

على نفس خطى الإمام ابن تيمية الدكتور القرضاوي

بقلم الكاتبة— إحسان الفقيه

أبرز ما تبلور في حسّي عن الدكتور يوسف القرضاوي، أنني قد رأيته على درجة شديدة الشبه بشيخ الإسلام ابن تيمية.

فلئن كان شيخ الإسلام قد برع في سائر العلوم، فهو الفقيه الأصولي الناقد المفسر المجتهد، صاحب الذراع الطولى في العقيدة، والحديث وعلله، وفي علم الرجال، والفتيا، والعلم بأقوال المتكلمين، فإن الشيخ القرضاوي قد خرج من نفس المشكاة من شمولية العلم، فامتدت اهتماماته العلمية بالفقه والأصول، والقرآن والسنة النبوية، والدعوة والتربية، والفكر، والسياسة الشرعية، والاقتصاد، والحركات الإسلامية، واللغة والشعر والأدب.

وكما أن ابن تيمية قد سخّر قلمه في الردّ على الفِرَق الضالّة من الفلاسفة والمتكلمين، والجهمية والرافضة وغلاة المتصوفة وغيرهم، فإن القرضاوي له جهود بارزة في محاربة التيارات الغربية الوافدة، وحمل على عاتقه توعية الأمة بخطر العلمانية والليبرالية والاشتراكية والتغريب ، كما أنه ناجز البدع والخرافات ، وحارب مصادر التلقّي لدى الصوفية من كشف وإلهام ومنامات، وله في تلك القضايا كتاب ماتع بعنوان “موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى والتمائم والكهانة والرقى”.

وأحسب أن الرجلين قد دخلا تحت وصف النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).

وورث القرضاوي عن شيخ الإسلام تلك الثورة الناضجة الواعية المنضبطة على الجمود الفقهي، وكلاهما قفز خارج قفص التمذهب إلى المذهب الحر في الفتيا، فالأول كان حنبليا لم يتقيد بالمذهب الحنبلي، والثاني حنفي شافعي، لكنه يدور مع الدليل، ويُفتي وفق أدوات الاجتهاد وشروطه.

كلاهما لم يكن جمهوريا يميل حيث مال جمهور العلماء، بل كانت لكل منهما اجتهاداته التي خالف بها جمهور أهل السنة، مع الحفاظ على الثوابت التي تقضي بعدم تخطي نص قطعي الثبوت والدلالة، أو تجاوز إجماع الأمة.

ونظرا لذلك، تعرض العالمان الجليلان لكثير من موجات الهجوم الضاري، وصل إلى حد تكفير كل منهما، وربما اتُّهِما بذات التهمة في كثير من الأحيان، حيث رماهما الخصوم بالتكفير ومخالفة الإجماع.

وافق القرضاوي شيخ الإسلام في الاهتمام بالجهاد ومدافعة الأعداء، فهذا ابن تيمية قد سجل له التاريخ أدوارا بارزة في مقارعة التتار، عبر التحريض على الجهاد ضد العدو الصائل، وإضرام نار الحماسة في قلوب الجند، والحث على التبرع لجيش الإسلام، كان رحمه الله دائم التحرك بين معسكرات الجنود والثغور المرابطين عليها، يثبتهم ويقوي عزمهم، بل ويشارك في القتال بنفسه.

وأما شيخنا القرضاوي، فاهتمامه بالقضية الفلسطينية والمقاومة كان مجالا فاقَ فيه أقرانه من أهل العلم، وتعهدها بالفتاوى التي تدعو الحاجة إليها في ميدان المقاومة، ومنها الإفتاء بجواز العمليات الاستشهادية ضد المحتل الصهيوني طالما أحدثت فيه نكاية، ولم يُتوصل إليه إلا من خلالها.

ومن سعة فقهه ودرايته بأن الفتوى تتغير بتغير الأحوال، أفتى مؤخرا بعدم جواز هذه العمليات نظرا لأن النيل من العدو الصهيوني أصبح مُيسّرا عبر الصواريخ والأسلحة الحديثة.

كما عُرف عن القرضاوي إفتاؤه بتعيّن الجهاد في سوريا ضد النظام السوري العلوي المستبد، واهتمامه بالأقليات المسلمة المضطهدة في الشرق والغرب، إضافة إلى مواقفه الناصعة المؤيدة لثورات الربيع العربي على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة.

وحتى سجْن شيخ الإسلام ابن تيمية على يد خصومه، كان للقرضاوي نصيب في مشابهته، حيث اعتُقل مرات في سبيل الدعوة، منذ أن كان طالبا في المرحلة الثانوية في العهد الملكي عام 1949م، ثم اعتقل في الحقبة الناصرية عام 1954م، ثم في نوفمبر من نفس العام، وآخرها في نفس الحقبة عام 1963م.

ولما خرج الشيخ مُودّعا وطنه إلى قطر التي أقام فيها نهضة في مجال التعليم الديني، مضى في طريق الدعوة التي يعلم يقينا أنه لا يحدّها أرض وجغرافيا، وكأنه يسير بذات الروح التي عبّر عنها شيخ الإسلام بقوله: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة”.

كان شيخ الإسلام ابن تيمية من جهابذة العلماء الذي أسهموا في وضع المبادئ العامة للفقه المقاصدي، والذي يرتكز على فهم النصوص الشرعية الجزئية في ضوء المقاصد الكلية للشريعة، وله رحمه الله في ذلك الباب تطبيقات متعددة أبرزها المعاملات المالية، وذلك اعتمادا على ربط الأحكام بروح الشريعة الغراء وغاياتها، ومن ثم كان الإمام الجليل أكثر علماء عصره مسايرة للواقع ومستجداته، وأعمق فهما للنصوص.

وورث عنه تلميذه القيم ابن القيم ذلك الاهتمام، انطلاقا من إيمانه بأن الشريعة قامت على…

Exit mobile version