الإعجاز اللغوي لأم القرآن الكريم.
عبد العزيز بدر القطان*
إن وجوه الإعجاز هي كثيرة جداً في كتاب الله العزيز، ولا عجب من ذلك، لأنه كلام الله تبارك وتعالى وهو موصوفٌ بالكمال والجمال والجلال، فمعجزة القرآن الكريم، هي المعجزة الباقية الخالدة التي لا تنقضي عجائبها، قال تبارك وتعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
وكما أشرنا في مواضع كثيرة من مقالات سابقة، أن الإعجاز البياني في القرآن الكريم، لا حدود له، حيث يرتكز الإعجاز في شيئين، أولهما الإيجاز، لأن علماء البلاغة يقولون: (البلاغة الإيجاز)، وثانيهما، استخدام الكلمة، وهذا هو الإعجاز المدهش، وفي هذا يقول جهابذة اللغة العربية: (لا يجوز ترجمة القرآن)، فإذا تُرجم، لم يعد قرآناً، لأن لغة الأعاجم لا تستطيع أن تعبّر عن فصاحة القرآن وبيانه وبلاغته، حتى ولو تم استخدام كلمة من العربية نفسها غير موجودة في القرآن، فإنها لا تؤدي المعنى ذاته الذي يؤديه القرآن، وهنا قوة الإعجاز في الإيجاز، وإعجاز في استخدام الكلمة.
بالتالي، العربية هي لغة الإعجاز، وهي نفسها لغةٌ معجزة، لأنها لغة السماء ولغة أهل الجنة، وهي لغة نبي الله آدم عليه السلام، ذكر ذلك، إمام العربية، العلّامة الحبر، الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 هـ – 170 هـ)، الذي تتلمذ على يديه عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب بـ سيبويه (148 هـ – 180 هـ)، فاللغة علم ونحو وصرف، والإعراب فيها يعني الالتزام بقواعد اللغة، والإعراب كما عرّفه علماء العربية: (هو تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها لفظاً أو تقديراً)، لفظاً، كقولنا: (جاء محمدٌ، ورأيتُ محمداً، ومررت بمحمدٍ)، وتقديراً، كقولنا: (جاء الفتى، رأيت الفتى، مررت بالفتى)، الفتى هنا اسم مقصور لذلك لا تظهر فيه حركات الإعراب، إنما تقدّر به تقديراً.
لنقف بدايةً عند فاتحة الكتاب، وننظر إلى ما فيها من صور الإعجاز، وكما نعلم أن القرآن في العربية هو مصدر كالغفران والشكران، لكنه مصدر استُخدم للمقروء من كلام الله تبارك وتعالى، وأما قرأ في اللغة العربية، تعني (جمع)، وسمّيَ القرآن، قرآناً لأنه يضم السور والآيات والأحكام، وأيضاً يقال قرا قرياً، أي جمع وضم، ومن هذا اللفظ جاء اسم القرية على عكس ما هو شائع، بأن القرية هي الريف، والصحيح أنها المكان الذي يضم أنماطاً مختلفة من البشر في مكان واحد، وتعني المدينة الكبيرة الجامعة، ومن هنا كان اسم مكة المكرمة (أم القرى)، أي أم المدن، وهذا خطأ كبير لا يعلمه كثيرون، فمن بعيد عن اللغة العربية، بعيد عن الإسلام، بالتالي، بعيد عن القرآن.
ويضم القرآن الكريم بين دفتيه السور والآيات، والسورة هي التي تحتوي على مجموعة من الآيات، وهي إما من السؤر الذي هو بقية الماء في قعر الإناء، كأن نقول “سائر الناس”، وهنا البعض يعتقد بأن “سائر الناس” أي جميعهم، وهذا خطأ فـ “سائر الناس أي بقيتهم”، بالتالي سميت السورة سؤرة لأنها جزء من القرآن، وإذا اعتبرنا السورة من السور الذي يحيط بالبناء، يكون المعنى (سميّت سورة لأنها تحيط بالآيات)، وإذا اعتبرناها من السورة التي هي في اللغة العربية، المنزلة الرفيعة، بالتالي، كل تلك المعاني جائزة، وأما الآية، وجمعها آيات، والآية هي آيتان أي ضربان، آية كونية هي كل ما خلق الله في هذا الكون، وآية كلامية قولية وهي الجملة التي تحتوي عليها السورة، والآيات الكونية جميعها تدل على خلود الله تبارك وتعالى، وعلى قدرته ووحدانيته، وكل خلق من خلق الله هو دليل على وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته.
اللغة العربية إذاً، هي لغة معجزة وهي لغة قادرة وباهرة، ولذلك اتسعت للإعجاز القرآني، يقول الله تبارك وتعالى: (فإذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهنا أتوقف قليلاً لتوضيح العياذ، العياذ واللياذ كلمتان مختلفتان، العياذ تعني التجاء سببه الخوف لطلب الحماية، لذلك نحن دائماً نستعيذ بالله سبحانه وتعالى، أي نلتجئ إلى الله تعالى كي يحمينا من كيد الشيطان الرجيم، وأما اللياذ، فالتجاء سببه الطمع لتحقيق رغبة، وأما الشيطان، فيقول علماء العربية بأنه واحد مأخوذ من اثنين، إما من شاط يشيط بمعنى احترق، لأن الشيطان مخلوق من نار، وإما من شطن يشطن، أي بمعنى بَعُد، أي بَعُد من رحمة الله، وأما الرجيم فتعني الطريد.
وفي البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، بسم: الباء حرف جر، وحذفت الألف من بسم، لأنها أضيفت إلى اسم الله عز وجل، وعدا ذلك يجب أن توضع، في هذا الخصوص، قالوا حذفت ألف بسم، لكثرة الاستعمال، والجار والمجرور عند بسم الله، هناك مدرستان للنحويين، مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة، لكن مدرسة البصرة كان ينتمي إليها أغلب علماء اللغة العربية وعلى رأسهم الخليل بن أحمد الفراهيدي، وتلميذه سيبويه، البصريون يقولون إن الجار والمجرور في (بسم الله) متعلق بخبر مبتدأ وأصل الكلام عند قول بسم الله الرحمن الرحيم، يقدّره البصريون بأن هناك مبتدأ محذوف، والتقدير ابتدائي كائن بسم الله الرحمن الرحيم، أما الكوفيون فيجعلون الجار والمجرور متعلقاً بفعلٍ محذوف تقديره (بدأتُ أو ابتدأتُ بسم الله الرحمن الرحيم) فيكون الجار والمجرور متعلقاً بالفعل (ابتدأتُ بسم الله)، أما كلمة اسم عند البصريين مشتق من السمو أي الرفعة، فاسم الإنسان ظهور له وبروز، هنا كلام رواد مدرسة البصرة قوي، وأما الكوفيون فيقولون إن الاسم مأخوذ من الوسم أي العلامة، لكن جهابذة علماء اللغة العربية ينحازون إلى كلام أهل مدرسة البصرة.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
إن استخدام القرآن الكريم للكلمة لا يصح استبدالها بأخرى حتى وإن كانت تحمل نفس المعنى كما ذكرنا آنفاً، فلا تؤدي دورها أبداً وهذا إعجاز، قوله تعالى (الحمد) فإذا قلنا (الشكر) لا تؤدي معني (الحمد) وكذلك المدح أو الثناء أو الإطراء رغم أن هذه الكلمات تعبّر عن معنى الحمد، فهناك فرق بين الحمد والشكر وبقية الكلمات، الحمد يكون للخصال وللفعال (حمدته على خصاله الكريمة، حمدت فيه شجاعته، وكرمه، وبسالته)، أما الفعال كأن نقول (حمدته على عونٍ قدمه إلي)، أما الشكر فلا يكون إلا على الفعال فقط (شكرته على نعمةٍ أسداها إلي)، وأما المدح فلا يكون إلا على الخصال (مدحت فيه شجاعته)، وأما الثناء للصالح والطالح، (أثنيت عليه بصالح، وأثنيت عليه بطالح)، والثناء أيضاً تكرار للمدح وقد يكون تكرار الذم، ثم نأتي إلى الإطراء وتعني مدح الإنسان في وجهه، وجبهة الإنسان تسمى (الطرة)، والإطراء أيضاً، المبالغة في المدح، اللغة العربية تؤدي المعاني أداءً دقيقاً جداً، فلكل مقامٍ مقال.
الحمد لله، الحمد له أركان وله أقسام، الأركان هي: حامد، محمود، محمود به، محمود عليه، وصيغة الحمد، وأما أقسام الحمد فهي: حمد قديمٍ لقديم، وحمد قديم لحادث، وحمد حادث لقديم، وحمد حادث لحادث.
حمد قديمٍ لقديم، هو حمد الله نفسه أزلاً سبحانه وتعالى، ومدح قديم لحادث، هو مدح الله تبارك وتعالى أنبياءه ورسله، (وإنك لعلى خلق عظيم)، ثم مدح حادث لقديم، وهو مدحنا نحن لله سبحانه وتعالى، ثم مدح حادث لحادث، وهو مدحنا لبعضنا، من هنا، لننظر لكلمة الحمدلله، هنا (الـ) التعريف في كلمة الحمد تفيد الاستغراق أي كلمة الحمد تستغرق كل ضروب الحمد الموجهة لله تبارك وتعالى، لأنه وحده المستحق للحمد ولأن كل النعم من الله تعالى ولذلك هو المختص بالحمد، وأما اللام في كلمة لفظ الجلالة (الله)، هي للاختصاص أي أن الله وحده هو المختص بالحمد وهو المستحق للحمد لا يحمد غيره، فلو أتتنا نعمة من مخلوق، نحمد الله لأنه هو الذي سخره لنا ليقدم لنا هذه النعمة.
من هنا، سورة الفاتحة لها أسماء، تسمى الكافية والوافية والشافية والحمد وفاتحة الكتاب، وفاتحة الكتاب مبنية على أسسٍ ثلاثة: الإلهية والربوبية والرحمة، (الحمد لله يعني حمد الإله)، وكلمة الحمد تتعلق بالأسس الثلاثة أي بالإلهية والربوبية والرحمة، لأن الله سبحانه وتعالى يتسحق الحمد في إلهيته وربوبيته ورحمته، (رب العالمين)، أي أن الله تعالى القيّم على كل حاجات العباد التي ينميهم بها، من أخلاق وفضائل وتربية، فكل ما يحتاج إليه الخلق، فرب العالمين متكفل بكل ذلك، (الرب) هنا مصدر استخدم للمبالغة وقوة في المعنى، كما نقول (شاهد عدل) وهي أبلغ من أن نقول (شاهد عادل)، و(العالمين)، صنف من أصناف المخلوقات، هناك عالم الإنس وعالم الجن وعالم الملائكة وعالم الشياطين، والله سبحانه وتعالى هو رب كل تلك العوالم، لكن السؤال هنا لماذا لم يتم استخدام كلمة عوالم بدل العالمين، لأن العوالم تستخدم للعقلاء وغير العقلاء، في النحو لا يجوز أن أي يجمع اسم جمع مذكر سالم لغيرالعاقل، والعقل أعظم نعمة منحها الله تعالى للبشر، قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، والقرآن الكريم يستخدم كلمة القلب للدلالة على العقل، فلا يوجد في القرآن كلمة عقل، بل نجد اشتقاقاتها.
الحمدلله رب العالمين، السر هنا استخدام الله تبارك وتعالى للعالمين وهو جمع العقلاء، احتراماً للعقل، بالتالي، إن إعجاز الفاتحة التي هي أول سورة وهي أعظم سورة وهي أمُّ القرآن وهي السبع المثاني، سورة تشمل جميع معاني القرآن ومقاصده، يدور محورها حول أصول الدين وفروعه، ووجودها في بداية المصحف يدل على عظيم قدرها وفضلها، ولكن لم ينتهِ الحديث، وله بقية.
*كاتب ومفكر – الكويت.