مقالات

سلسلة الإعجاز البياني 2

الإعجاز في القرآن الكريم

(روعة المتشابهات في الاستدلال القرآني)

بقلم /أ/ المحامي عبد العزيز بدر القطان*

في الحياة مرادفات وتمايزات، تضادات أياً كانت تسميتها، خير وشر، صعود وهبوط، طريق وسبيل، بصر وبصيرة، لكل كلمة معنى ولكل موقع لها معنىً آخر، فكيف وإن كان القرآن الكريم يحوي منذلك الكثير، وحظي باهتمام كبار العلماء إلى يومنا هذا لما فيه من أسرار بلاغية وبيانية ونحوية بالطبع.

بالتالي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كم يغلب استعمال الطريق عندما يكون الخطاب في مجال العتاب والتهديد للكفار والمنافقين، قال تبارك وتعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم).

والطريق هنا يطلق على كل ما يطرقه طارق معتاداً كان أم غير معتاد، أخذا من طرق أرجل السالكين أي ضربها، ويقال في العربية: (هذا دأبك وطريقك أي طريقتك ومذهبك)، قال تعالى: (ويذهبا بطريقتكم المثل)، أما السبيل فهو الطريق السهلة ويعبر عنها معنى أوسع أي المحجة، قال تعالى: (قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، ويلاحظ في البيان القرآني، اختصاص لفظة السبيل في إضافتها إلى الله تبارك وتعالى في كثير من الآيات الكريمة، خلافاً لمفردة الطريق، فلم تضف إلى الله سبحانه وتعالى أبداً، لكن يكثر في القرآن الكريم استعمال مقدرة السبيل بمعناه المعنوي، كما في قوله تعالى: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل)، فدلالة لفظ السبيل تدل على اليسر والسهولة والوضوح وتقع في الخير دائماً وفي الحديث مع المسلمين أو عنهم.

وكان بعض اللغويين يقولون بوجود الترادف في اللغة العربية ، ويعدونه مزية لها، لكن منكري الترادف عكفوا على التماس الفروق الدقيقة بين معاني الألفاظ التي قيل بترادفها، فصنفوا كتباً في ذلك، وقد نُقل عن ابن الأعرابي قوله: “كل حرفين أوقعهما العرب على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله”. وقد اصطلح على البحث اللغوي الذي يهتم بتحديد دلالة الألفاظ المتشابهة المعاني، بالفروق اللغوية، وأهم كتاب وصلنا في هذا الفن هو: كتاب الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري (ت 1005م). ويُعد الكتاب من أوسع كتب الفروق اللغوية مادة، حيث تضمن طرحاً للعديد من الآراء والشروحات التي تدل على غزارة واتقان مؤلفها ودقة تفكيره، وقد جاءت دراسة هذه الفروق على ضوء القرآن الكريم وألفاظ الفقهاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس، والهدف الذي ابتغاه المؤلف من كتابه هذا هو صيانة اللغة العربية من التأويل والتحريف والخطأ. وقد اعتنى مفسرو القرآن الكريم بتبيان الفروق بين الألفاظ المتشابهة في القرآن الكريم، مما يدحض فكرة الترادف التي تمسك بها بعض اللغويين القدامى.

*ابن الأعرابي: (أبو عبد الله محمد بن زياد بن الأعرابي الهاشمي، وهو إمام لغة وراوية وناسب علامة باللغة 150 هـ – 231 هـ).

*أبو هلال العسكري: (الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيي بن مهران العسكري، 920 م – 1005 م، واحد من أئمة البلاغة وعلوم العربية خلال القرن الرابع الهجري).

وفي مثال آخر، لدينا الموت والوفاة، قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمّى إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون)، الوفاة تعني كما يُقال وفّى ماله من الرجل أي استوفاه كاملاً غير منقوص أي قبضه وأخذه فلما يقال توفي فلان كأنه قُبِضت روحه كاملة غير منقوصة، أما الموت، هو مفارقة الحياة وليس فيها معنى القبض ولذلك يستعمل لفظ الموت أحياناً استعمالاً مجازياً يقال ماتت الريح أي سكنت وهمدت والذي ينام مستغرقاً يقال له مات فلان إذا نام نوماً عميقاً مستغرقاً. هذا السكون للموت فكأن هذا الشيء الذي يفارق جسد الإنسان بالمفارقة موت والذي توفّي تقبضه ملائكة الموت، لدينا أيضاً الفرق بين العام والسنة، كما في قوله تبارك وتعالى: (‏ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‏)، بالتالي، إن العام هو لما فيه خير والسنة لما فيه شر، العلماء يقولون الغالب وليست مسألة مطلقة. لكن في الاستعمال القرآني أحياناً يستعمل (تزرعون سبع سنين دأباً) (ثم يأتي عام فيه يغاث الناس) الزرع فيه جهد في هذه السنين. في قصة نوح (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) كأن الخمسين عاماً هي الخمسين الأولى من حياته التي كان مرتاحاً فيها وبقية السنين الـ 950 كان في مشقة معهم حتى بلغ أن يقول (ولا يلدوا إلا فاجراً كفّارا) هذه تجربة. هذا الغالب ومن أراد أن يلتزم الاستعمال القرآني يحرص على استعمال السنة في جدب وقحط والعام لما فيه خير .في سورة الكهف ذكر القرآن (ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعاً) لم يقل وازدادوا تسعة أعوام.

ولدينا النبي والرسول، والمعنى الشرعي، النبي: هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) وقوله “من رسول ولا نبي” فذكر إرسالاً يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كإرساله نوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بُعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس وقبلهما آدم كان نبياً مكلماً وقال تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم)، فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم،  وقوله “وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي” دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولاً عند الإطلاق لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:” العلماء ورثة الأنبياء”.

وحول الفرق ين يعملون ويفعلون وبين الفعل والعمل، يقولون العمل ما كان فيه امتداد زمن، العمل أخصّ من الفعل فكل عمل فعل ولا ينعكس. والعمل فيه امتداد زمن (يعملون له ما يشاء من محاريب) هذا للجانّ وهذا العمل يقتضي منهم وقتاً لكن لما تحدث تعالى عن الملائكة قال (ويفعلون ما يؤمرون) لأن فعل الملائكة برمش العين، وقال أيضاً: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) باللحظة أرسل عليهم حجارة، (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) خسف بهم، وقال: (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) العقوبات.

بالتالي، إن الفروق تكون كما أشرنا بين معانٍ تقاربت حتى أشكل الفرق بينها؛ نحو العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والخطأ والغلط، والإرادة والمشيئة والغضب وغير ذلك، وتبيين الفوارق في هذه الألفاظ يؤدي إلى المعرفة بوجوه الكلام والوقوف على حقائق المعاني، حيث أن هنالك الكثير من الكلمات التي يُعتقد أن المعنى فيها واحد، لكنْ هناك فروق بينها، تجعل لكل لفظ دلالة خاصة به، والقرآن الكريم بحر مفردات لها أكثر من معنى ولا يمكن أن تحمل المعنى المراد منه خارج السياق القرآني، وهذا وجه من وجوه الإعجاز، إذاً إن الترادف اللغوي يعد من أهم أسباب غنى اللغة العربية بالمفردات، ويراد به تعدد الألفاظ بمعنى واحد.

*كاتب ومفكر – الكويت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى